مشاهدات في غزة لقادم من الضفة
09 ابريل 2013
”انت جد نازل غزة؟“ يسأل محمود رفيقي في سكن القاهرة مستغربا، أجيبه: ”آه نازل غزة، وين هي كاينة غزة؟“ يخبرني إن أهل غزة غالبا ما يحبون زيارة الضفة ولكن العكس لا يحدث، فكرت بقوله كسبب إضافي للنزول. كنت أركز في كل مشاعري وأدقق بها، لم أفهمها، فلم تكن فرحة زيارة بلد جديد ولم يكن الشغف لاكتشافه، وبعيداً عن الرومانسيات لم تكن الحنين إلى الوطن أيضا، كانت مزيج من هذا وذلك وأكثر. في الطريق يحدثني السائق ابن العريش عن الصحراء والأراضي الممتدة، ويسرد لي قصصاً تعبر عن مدى ارتباط أهل سيناء بأهل غزة وتاريخ علاقتهما وإهمال الحكومات المصرية المتتالية لتلك المناطق، ثم خرج عن السياق فور وصولنا للعريش ليسألني إن كنت سأستخدم نفقاً معيناً أو المعبر للوصول إلى غزة، ضحكت -فلم اتخيل ان الانفاق وسيلة يجاهر بها العامة- واخبرته اني سأسلك المعبر ليعود ثانية لسرد القصص حتى وصلت بوابة معبر رفح، ذلك المعبر الذي لم يكن يوما الا احد ابرز عناوين معاناة غزة، لقد رأيت البوابة التي طالما اغلقت في وجه ابناء غزة واعتلاها جنود مصريون ليشددوا اغلاقها، لقد رايت الارصفة التي افترشوها في انتظار الفرج وفتح البوابة، عبرتها فرحاً وانا اراجع كل صور المعاناة الساكنة في ذاكرتي، لأمر بتكاسل موظفي الجانب المصري من المعبر، ثم لباقة واحترام الجانب الفلسطيني، يافطة ”اهلا وسهلا بك في فلسطين“ كانت كفيلة بتحليقي، انا في غزة، أنا في فلسطين. IMG_1988[1] مدينة فلسطينية عادية سيكون دليلي والد صديقي بلال ”ابو احمد“ في اول جولة فور وصولي اخبرته بنيتي التعرف على غزة بعيداً عن صور الدمار التي اعتدتها، بدأت الجولة في ”غزة البلد“ مروراً في شارع عمر المختار لندخل سوق الزاوية ”السوق الفوقاني“، ثم محلات بيع الذهب والجامع الكبير، لنتمشى بسوق الخضار، كل شيء كان عادياً بالنسبة لي حتى لمحت عيني محلاً لبيع المستلزمات العسكرية بجوار محلات بيع الخضار، ذلك المحل لم يكن ابداً عادياً بالنسبة لي فلم اتصور وجوده من قبل في مناطق فلسطينية، نستمر في التمشي ونذهب لحمام السمرة، ثم نستقل السيارة لنمر بجوار ما تبقى من مركز شرطة الشجاعية لنذهب الى جامعة الازهر ونعرج بعدها على (سوبر ماركت ميترو) ثم الى صالة ”الرينبو“ للالعاب الترفيهية. تجولنا بعدها في مخيم الشاطئ وفي حواريه. image_1365233686821487-1024x764 كل شيء كان عادياً في غزة، مثلها مثل أي مدينة من مدن الضفة الغربية، فيها من الحياة والشواهد ما يؤكد على عادية الحياة اليومية لأي فلسطيني.  عنوان المقاومة في غزة يتغنى الجميع بنصر المقاومة الاخير وفعاليتها. ولا بد أن يلاحظ الزائر لغزة  معسكرات التدريب التابعة للمقاومة الفلسطينية. إحدى تلك المعسكرات يقع في بيت حانون تحيطه بيوت سكنية وبالقرب منه مصنع ”البيبسي“. يُمنع المتدربون فيه من اطلاق الرصاص منعاً لازعاج السكان. هنا تستطيع تمييز سيارات المقاومة وهي تتجول بحرية وعلانية، وحق الاولوية لها في المرور. هنا كشف المقاومون عن لثامهم بعد الحسم العسكري عام 2007، فلم تعد غزة ارضاً خصبة للمتآمرين على المقاومة، وتحولت المقاومة الى ما يشبه الجيش المنظم. image_1365234694280686 هنا ينتشر المرابطون في منتصف الليل لحماية الحدود والشخصيات المهددة بالاغتيال، يرحب بهم الجميع ويسهلون مهمتهم، ويقدمون لهم ما تيسر من الطعام والشراب. يحدثني صديقي عن استمتاعه بتدخين الارجيلة على شرفة منزله وهو يراقب الصواريخ المنطلقة لقصف تل ابيب في الحرب الأخيرة في غزة قد يختلف الناس في مواقفهم تجاه الحكومة وعلى طريقة ادارتها ولكنهم جميعا يسالون الله التوفيق والحماية للمقاومة. هنا يعدل السلاح ليزداد كفاءة ولا يعدل لتقل دقته، هنا يناقش العامة مواضيع المقاومة واثرها ومستقبلها، هنا كل الفخر والعزة والكرامة. هنا تسترد المعنى الحقيقي للمقاومة. الاراضي المحررة خلال جولة طويلة في الأراضي المحررة عقب الانسحاب الإسرائيلي وتفكيك المستوطنات عام 2007 مع ناشطين حفظوا تفاصيل الاراضي واصحابها، كانت المحطة الاولى في القرية البدوية في بيت حانون حيث التقينا احد قاطنيها الحاج توفيق ابو حشيش البالغ من العمر 53 عاماً. الحاج ابو حشيش لاجئ بدوي من قرية يبنا المحتلة، كان صاحب مزارع تين وعنب، واليوم هو احد البدو الذين بدأوا بزراعة الاراضي المحررة ببذور واشتال مدعمة بعد استئجارها من الحكومة بسعر زهيد.

IMG_2132[1]

سألته ان كان قد غادر منزله في القرية البدوية من قبل، فقد تعرض منزله للرصاص اكثر من مرة واصيب اثنين من ابنائه في حادثتين منفصلتين، رد عليّ مستهجنا قائلا ”احنا بدنا نهاجر مرة ثانية يا عمي !“، اجمل ما في حديثنا كان تاكيده مراراً وتكراراً على العودة فمرةً قال ”اهم إشي الرجعة“ ومرة اخرى ”لازم يوم من الايام نرجع، لو انا برجعش، او ابن ابني برجعش، ابن ابني لازم يرجع“. اكثر ما تمناه الحاج ابو حشيش على حد قوله ”بتمنى لو كنت حصلت على فرصة للتعليم“ لكن صدقوني كان يتحدث في السياسة ويتمسك بحق العودة وضرورة التعمير والزراعة والمقاومة أفضل من كل ساستنا. المحطة الثانية كانت في بيت لاهيا، مقابل بوابة معبر ايريز تحديدا، كان يمنع تجاوز شجرة اعتمدها النشطاء واصحاب الاراضي كعلامة للخطر، وهي تبعد 300 متر من السور العالي الذي يفصل بيت لاهيا عن المناطق الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية. كانت الجرافات تتمتع بتجريف اراضي المنطقة وقت ما شاءت. IMG_2121[1] حدثني الناشط حسين والناشطة إباء عن المظاهرات التي شاركوا بها احتجاجاً ورفضاً لتجريف الاراضي والاعتداءات التي طالما تعرض لها مزارعو المنطقة، وعن الفعاليات التي نظموها لزراعة تلك الاراضي، ولكن اليوم وبفضل المقاومة وبعد انجاز الحرب الاخيرة صاروا يتجولون فيها احراراً. عند وصولي لتلك الشجرة، تجاوزتها بقدمي اليمنى مهرولاً نحو مكعب اسمنتي من الواضح انه من مخلفات الاحتلال لاقف عليه طائراً محلقاً صارخا ”أنا فوق أراضٍ محررة“. المحطة الثالثة كانت في بلدة خزاعة في خان يونس واجمل ما فيها كان صديقنا عوسج الذي يسكن في إحدى البيوت التي عانت كثيرا من القصف واقتحام القوات الإسرائيلية الخاصة لها. يحدثنا عوسج ورأسه مرفوعاً عالياً غير مكترثٍ بكل ما تعرضوا له عن وصولهم للسياج الحدودي ورؤيتهم للجنود المكسورين ما بعد السياج واستفزازهم، وفي الطريق لتحسس الاراضي المحررة فوجئت باني لن استطيع الوصول الى ذلك السياج، فقد عاد الجنود لاطلاق الرصاص على كل من يقترب منه وفي ذلك خرق لاتفاق الهدنة الذي تم عقده ما بعد الحرب. عند وصولنا الى اخر نقطة آمنة رايت السهول الخضراء الممتدة التي زرعت من جديد، رأيت موقع صوفا العسكري المقابل لبلدة خزاعة وبجانبه موقع كرم ابو سالم الذي خطف منه جلعاد شاليط، ترى تلك المواقع العسكرية المحصنة التي تعلوها الابراج المطلة على المنطقة، ولكني لاول مرة ارى موقعا عسكريا محصنا مكسوراً مهزوماً فأيدي المقاومة تطاله وقت ما شاءت.

في النهار كل تلك المناطق يزرعها المزارعون، ويتجول بها امثالي ليغسلوا هزيمتهم وذلهم، وينتشر بها مرابطو المقاومة ليلا لحمايتها ومنع أي خرق للقوات الخاصة الاسرائيلية، يحتضنهم ساكنوها ويقدمون لهم كل الدعم والمساندة. عبقرية كسر الحصار ان كنت سائحاً عادياً تزور غزة لأول مرة سترى كل ما يناقض فكرة الحصار، وستتعامل مع الحصار كأكذوبة، ولكن إن بدأت البحث والخوض في التفاصيل ستكتشف عبقرية في كسر الحصار والتغلب عليه، فاليوم اصبحت الانفاق وسيلة تتطور يومياً لتلبي كل احتياجات غزة من مواد بناء ومواد تموينية، وصارت الانابيب الممتدة تحت المناطق الحدودية تهرب ما تحتاجه غزة من وقود وغاز. اليوم تصنف الانفاق الى انفاق الافراد وانفاق البضائع وانفاق السيارات وغيرها الكثير. لكنك تستطيع الاحساس بالحصار عندما تسمع قصة معاناة غزي يريد الحصول على جواز سفر فلسطيني فهو مضطر للحصول عليه من رام الله وليس غزة، وان اراد غزي اخر تصديق اوراقه من وزارة الخارجية فليس له الا رام الله، فكل الدوائر الحكومية في غزة غير معترف بها. ان قرر غزي السفر الى مصر او المرور بها فعليه انتظار الموافقة الامنية لانه غزي فقط. ادخال الاموال الى غزة يتم عبر الشنطة من خلال الانفاق وليس من خلال حوالات مالية رسمية تتم عبر البنوك. في غزة عليك ان تعتاد على انقطاع الكهرباء وتحاول توفير مولد كهربائي ان تيسر لك ذلك. في غزة لا اسعار ثابتة للسلع، فقد تشتريها اليوم بسعر لترتفع بعده او حتى تتضاعف لعدم توفرها بشكل دائم. في غزة انهك الحصار الناسَ رغم انهم اعتادوا عليه وتعايشوا معه، ورغم عبقريتهم في كسره الا انك تستطيع لمسه في يوميات كل غزي، وحتى الان تلك العبقرية ليست كفيلة بكسره كلياً. ما تبقى لنا من فلسطين رغم قصر زيارتي التي لم تتجاوز الخمسة ايام، الا انها كانت كفيلة لي باسترداد الكثير مما افقدتني اياه رام الله، هنا تذكرت المعنى الحقيقي للمقاومة، هنا يتحدث الجميع بها وبتفاصيلها وبشهدائها وابطالها من غير رقيب ولا حسيب، يسألون الله التوفيق للمقاومة ليأسروا جلعاداً جديداً وفي نفس الوقت تكشف الاجهزة الامنية نفقا في صوريف أُعدّ لخطف الجنود، والمفارقة ان الضفة لم تشهد أي حراك ضد هذا العمل خوفا او قلقا وربما تعوداً. ورغم الحصار والحروب هنا شعب يحب الحياة والفرح، ترى الفرح يملأ تفاصيل يومياته، هنا شعب يقلق من فترات الهدوء والهدنة اكثر مما يقلق من الحروب، هنا شعب لم ير الجنود الاسرائيليين منذ الانسحاب عام 2005 ليتماهى مع الاحتلال ومظاهره يومياً، هنا لا يبتسمون للجندي على الحاجز على امل ان يسرع ذلك تجاوزه، هنا لا يرون المستوطنين على الطرق الخارجية واقفين خارج حصونهم الاسمنتية التي أُعدت لهم في بداية الانتفاضة الثانية لتحميهم من ضرب شباب المقاومة من غير أي اندهاش، ولا يوجد في غزة اية قرى او بلدات عادت لاصلاح سيارات المستوطنين وبيعهم المواد التموينية. هنا الحكومة وأجهزتها الامنية تحمي ظهر المقاومة خلال فترات الهدوء والاشتباك ولا تستدعي ولا تحقق ولا تعتقل المقاومين، في غزة السلاح الاول سلاح المقاومة وفي ذات الوقت هو السلاح الوحيد المحرم في الضفة الغربية. هنا الجدران المشبعة بالشعارات التحريضية، هنا صور الشهداء تملؤ لوحات الاعلانات. هنا حملات مكافحة التخابر مع الاحتلال ومعاقبة المتخابرين، غزة اليوم ليست ارضاً خصبة لهم. بالنسبة لي ”هنا غزة . . .. هنا ما تبقى لنا من فلسطين“، ليس لانها الافضل ولا النموذج، ولكن لاني جئت من مكان يقاوم كل من يفكر في مقاومة الاحتلال ويرفض التماهي معه وينكل بكل من يحلم بالاقتراب من فلسطينه إلى مكان يوحي بعكس ذلك تماماً. هذه التدوبنة نشرت في شبكة قدس بتاريخ 6-4-2013

جميع الحقوق محفوظة © 2024