الكبير قبل أوانه
23 ديسمبر 2013

لعل الحياة قست عليه مبكراً، تحديدًا مذ صار يتحكم بالحاجة الطفولية للتعبير عن الحزن والبكاء، ذلك الحس الطفولي البريء، كان الوحيد القادر على إخراج الصخور القابعة اليوم في أحشائه، وربما إخراجها قبل تشكلها.

نشأ وتربى على كلمة "ما تعيطش"، سمعها بمختلف صيغها، يوم دخوله المدرسة، وساعة التطعيم ضد جدري الماء، وعندما كسرت يده، وبعد عقاب مؤلم في البيت، وغير ذلك من المواقف الطبيعية المتكررة في الطفولة الشقية.

أول تحول له كان في عامه العاشر، عند وفاة جده تحديداً، حين رأى والده الذي اعتاد أن يراه صلباً، يخفي لمعة عيونه المختنقة بالبكاء خلال الدفن، ويواسي الجميع طالباً منهم الدعاء له فقط "العياط بفيدش، ادعوله ادعوله"، يشد عزم جدته، ويصرخ في وجه أخته الوحيدة للتوقف عن البكاء.

كان يفكر بالمستقبل في وقت لم يكن أقرانه في جيله قد بدؤوا في ذلك بعد، فتقمص دور "الكبير القوي"، ساعده في ذلك قربه من والده، ومساعدته له في عمله، واختلاطه مع العمّال، واصغائه للنقاشات والأحاديث في متجرهم الصغير.

وفي المدرسة، فضّل مصاحبة الأكبر سناً عمن هم في جيله، فلعب ألعابهم، وأقحم نفسه في مناوشاتهم، واحتسى القهوة، وتَعلّم التدخين، واستخدم شتائمهم، ورددها قبل أن يفهم معنى أغلبها.

في "الحارة"، كان يجلس على الرصيف مراقباً المارّة، ويتابع كبير "الشلة" محمود وهو ينتظر ظهور "سهى" على الشباك، لم يكن اسمها سهى، ولكن هذا ما توقعوه.

بحث عن شباك آخر، فوجد صبية كانت مميزة بِطلّتها، ولكنها قليلة الظهور، قرر أن يتميز عن "كبير الشلة"، فلم يسمها، بل بحث عن اسمها، واحتال على أمّه لمعرفته، فبدأ بسؤالها عن أخبار بيوت الحارة، ثم نسائها، وتنقّل من موضوع إلى آخر حتى وصل إلى الحديث عن منزل (لينا)، هكذا كان اسمها كما أجابت والدته حين سأل عن سكان المنزل.

لم يحتج الكثير من الوقت حتى فرض وجوده على "الشلة"، وصار له اسم معروف في "الحارة"، وفي ذات الوقت صار يجد صعوبة أكبر فأكبر في الانخراط مع أبناء جيله.

جاءت الانتفاضة الثانية في عامه الثالث عشر، وكزملائه ورفاقه، كان يهرب من فصول الدراسة ويتوجه إلى نقاط الاشتباك، ليخلع قميصه ويلف وجهه به، ويتقدم الصفوف لرشق الجنود بالحجارة، متحامياً بحاوية القمامة، بالنسبة له تلك الحاوية كانت درعاً قوياً ضد الرصاص. لم يقتنع بجدوى الحجارة طويلاً فبحث عن الجديد، وبدأ بتعلم صنع المولوتوف، برز بين رفاقه في توفير وجمع حاجيات صنعها، ثم صاروا يطورون مهاراتهم بقذفها، ويتراهنون فيما بينهم على شجاعتهم في الاقتراب من الجنود، حتى اخترقت رصاصة قلب رفيقهم محمود، وهو يثبت لهم شجاعته، كان أكثر من اقترب من الجنود، وكان أشجعهم.

استشهد صديقه ورفيقه محمود. لم يستوعب الصدمة، ولم يُميز مشاعره في البداية، فلم يتعرف على الموت عن قرب من قبل، ولم يرَه يُسقط روحاً بكامل طاقتها على بعد أمتار منه. ذهب إلى بيت الشهيد بعدما شارك في وضع جثته في ثلاجة الموتى، فقد أصرّ على البقاء قرب جثته في لحظاتها الأخيرة.

عند بيت الشهيد، التفّ حوله صبية "الشلة" ليواسوه، رفض ذلك المشهد، وصار هو من يواسيهم، طلب منهم الدعاء له على طريقة والده، "العياط بفيدش، ادعوله ادعوله"، أجبر نفسه على عدم البكاء مع أصدقائه أمام بيت الشهيد، خنق دموعه، تماماً مثلما فعل والده، انشغل بتقمص ذلك الدور، وبمسح الدموع القليلة التي كانت تتسلل قبل أن يراها أحد، لقد انخرط تماماً في ذلك الدور حتى فقد الحس بحزن اللحظة.

3962792_maxلم يدم ذلك طويلاً قبل أن يختنق، ويقرر الانسحاب بحجة واهية، ليهرول نحو منزله، قاصداً غرفته، ليدخلها وتنهمر دموعه بالبكاء. غرفته كانت حيزه الخاص، حيزه الذي لا يستطيع أن يكون فيه إلا خالعاً لكل الأثواب، ومتجرداً من كل الأدوار. لقد أدخل حزنه حيزه الخاص، أدخله ولم يخرجه، واتسع معه ذلك الحيز.

عزز محيطه ذلك على مدار السنين، لكن في خلوته، كان في داخله دائماً شيء يناقضها، قد يكون مجرد الحنين إلى طبيعته. أياً كان، لم يدم ذلك طويلاً، قبل أن يفقد الشعور به، ويتحول إلى طبيعة. لقد صار قاسياً، صار قاسياً حتى على نفسه.

لا يشكي ولا يشتكي، فالشكوى بالنسبة له هي ضعف، وإظهار الضعف ضعفٌ على ضعف، وهو ما لا يليق به. تمنعه من الشكوى تحصينات حيزه الخاص الكبير، لقد عزل ذلك الحيز وكل مكنوناته عن الجميع، ولم يسمح لأحد باقتحامه، لكن مع كل تلك التحصينات، عضلات وجهه كانت تفضحه دائماً، تفضحه ابتسامة ناقصة أحياناً، أو تغيرٌ سريع في ملامح وجهه أحياناً أخرى.

بمجرد سماعه قصة تشابه قصة قد دفنها، أو موضوعاً يحرك فيه ألماً لم يداوِه بعد، أو مشكلة قد مرّ بها، مهما مر عليها من الوقت، تبدأ ملامحه بالتغير، والتشكل بما بتناسب مع موضوع اللحظة. كان تأثره دائماً يفوق من هم حوله، لكنه كان ينجح في الحفاظ على طبيعته الصلبة، حتى يرى في عين أحد ممن حوله أي نظرة تتبع أو متابعة، فيقرر بابتسامة عريضة الانسحاب، دون أن يترك أثراً واضحاً، ليمشي بخطوات سريعة وهادئة إلى خلوته. كان الجميع يلاحظ هذا التغير عليه، لكنهم لم ينجحوا في ربطه بتفصيل أمر ما قد حدث أمامهم.

في خلوته، لا أحد يدري كيف يغسل ما فيه، كيف يحزن، كيف يعزي ويواسي نفسه، كيف يطبب جراحه ويداوي آلامه، قد يفكر بطريقة تخفف حمل ظهره، وتكسر قليلاً من الأحجار الكثيرة المتكدسة في داخله، دون أن تكسر معها طبيعته التي كبر عليها، وعرّفه الناس بها. قد يتمنى أحياناً أن يجد من يسمع تنهيدة تعبر عن كل ما فيه، لكن دون أن يحس بعمقها.

هو اليوم، يبث السعادة في محيطه، فتلك طبيعته المرحة والمليئة بالطاقة التي عوّدنا عليها، ولكنه يبثها ليغطي الجزء الخفي الصامت من طبيعته.

أحمد البيقاوي

جميع الحقوق محفوظة © 2024