الفلسطيني الهارب نحو البحر بكيسه الأزرق
29 يونيو 2013
ترتيباتي للسفر جاهزة، قمتُ بكل ما يلزم حسب ما سمعت بالضبط. الجميع هنا يتحدث عن السفر أو الهروب للحصول على الحق في اللجوء. وضعتُ قليلاً من الملابس تكفي للرحلة في شنطة الظهر، وبيدي سأحمل كيساً بلاستيكياً فيه كل ذكرياتي وهداياي وكل ما له علاقة بحلمي، ووسعه الكيس. والأهم طبعاً جواز السفر.
125 كيس البلاستيك فيه مسبحة أهداني إياها رفيقي من سوريا، “أهدانا إياها منه ذكرى، هادا رفيقي إستشهد”. وفيه راديو صغير أسود، راديو جديد، “بتسمع فيو عالاغاني، في القارب أو في أي مكان”. وفيه ألواني وسياراتي البلاستيكية، أنا “بحب أجمع السيارات”، وسماعات الأذن ومصحفي، وشهادتي المدرسية التي تشهد أنني وفقت بعلاماتي كعادتي، “مو ناقصين كتير” رغم كل ما نمر به. ووضعت في كيسي مفتاح منزلنا في المخيم. في مخيم اليرموك ولدت وترعرعت. سمّوني هناك أحمد، ولعبت إحدى عشرة سنة في زقاقه. كلّ تفاصيل طفولتي الجميلة ارتبطت بحواري المخيم إلى أن صارت أصوات القصف والتفجيرات والبنادق مسموعة فيها وصار الموت يقترب منا أكثر وأكثر. لجأنا الى مصر باحثين عن الأمان. جاء قرار والدي بالسفر بعد تردد. كنت قد سمعت خبر استشهاد صديقٍ قُصفت عمارته وهُدمت على رؤوس قاطنيها. ظلّوا تحت الردم أربعة أيام بلياليها قبل أن يكتشف أهالي المنطقة خلال بحثهم عن الجثث أن صديقي ووالده أحياء يرزقون، كان هذا الخبر آخر ما سمعته في المخيم قبل أن تنطلق سيارة والدي إلى مطار دمشق الدوليّ. وللأسف، انطلقت السيارة ولم أودّع صديقي. “مصر من كتر مانا كبيرة” صرنا نعيش فيها و”كأنه عايشين في سجن” دون أيّة حقوق، ولذلك شاركتُ مع عائلتي في الاعتصام الذي نُظِّم أمام المفوضية السامية لحقوق اللاجئين، وشاركتُ على مدار يومين في الاعتصام الذي كان أمام السفارة الفلسطينية في القاهرة للمطالبة بالاعتراف فينا كلاجئين، ولكن دون نتيجة. وأمي السورية، ترفض أن تعامل كسورية لتأخذ حقوقاً لا نأخذها نحن. فأبناؤها فلسطينيون. “في بعض الناس مو منيحة معانا”، عندما نمرّ من أمام جامع الحصري في مدينة 6 أكتوبر يتعرض لنا البلطجية الجالسون هناك، “وبتواسخو” ويشتمونا قائلين: “انتو السورية خربتولنا البلد ما خلتولنا شغل”. “طبيعة الشعب المصري طيب بس الاساتذة مو مناح”، نتعرض للتمييز بشكل يومي ويتعمد “الأساتذة استفزازنا ومعاقبتنا”. ذات يوم “ضربني الأستاذ بالعصاي لأني أعرت رفيقي السوري قلم”. “ووقفوني برة، وأعطوني ورقة فصل ثلاثة ايام”، “مدير المدرسة مو منيح معي من مرة”. فكرتُ بالهروب، “إمبارح ضبيت أغراضي وشنتايتي بدي أهرب، أروح أسافر مع هاي الناس اللي بسافروا بالقارب من هون”، “من شواطئ الإسكندرية لشواطئ ايطاليا، ومن ايطاليا عألمانيا”، أو الى أيّ دولة أوروبية أخرى، “أخوي محمد بقول لي: الدول الاوروبية صارت أحسن من الدول العربية”. الدول العربية “بيصير فيها إشي فظيع” وأكبر دليل على ذلك “اللي شفنا في سوريا”. “هناك براعوا حقوق الطفل أحسن من الدول العربية”، وهذا سيساعدنا على الحصول على حياة أفضل. “أنا بدي أصير دكتور، وأخي محمد يحلم أن يصير عالماً، هنيك أحسن بكل شي، هنيك بنطلب اللجوء”! عَلِم والدي بمخططي وغضب، أخذ مني جواز السفر واحتفظ به ومنعني من الهروب. كان حازماً جداً معي. قبل أسابيع حاول القليل مما نعرفهم من اللاجئين الفلسطينيين السوريين الساكنين بقربنا الهروب عن طريق بحر اسكندرية في القوارب التي اشتهرت بتهريب العمالة المصرية، وبالفعل سافروا وانطلق بهم المركب. توقف القارب في اليوم الثالث، توقف وسط البحر بناءً على أمر القبطان، فقد نشاأ خلاف بين القبطان والسمسار الذي اتفقوا معه، استمر القبطان بالعناد والتوقف دون رحمة، توقف القارب مكانه دون تحرك لمدة عشرة أيام. نزلت الرحمة عليهم حينما توقف قارب آخر كان مارّاً بجوارهم، أشفق قبطان القارب على حالهم وتعاطف معهم، أخذهم معه على قاربه لينضموا الى أمثالهم من الركاب. صارت حمولة القارب زائدة. كان القارب قد قطع مسافة ربما طويلة عندما دخلت المياه القارب، وبدأ القارب بالغرق البطيء لتصير مهمة كل من على السفينة تفريغ الماء المتسرب، ازداد الحال سوءاً حتى جاءت القوات البحرية الإيطالية، نعم جاءتهم، فمن حسن حظهم أنّهم دخلوا المياه الإقليمية الإيطالية. حدثني والدي كثيراً عن فلسطين، وعن الرجوع لأرضنا وبيتنا، وأنا فكرت مرة بالرجوع لفلسطين، “بس هلأ اليهود مستحلّينها، ما بنقدر نرجع عليها، بنرجع عليها بس تتحرر”. حالياً أريد الرجوع الى بيتي في مخيم اليرموك “وبعديها بنفكر بالرجعة على فلسطين”. يحتجز والدي جوازي لمنعي من السفر، بالنسبة له الهروب من مصر عن طريق البحر خطر علينا. هو يمنعني من السفر اليوم، ولكني متأكد أنه يفكر في السفر أكثر مني للحصول على أبسط حقوقنا، أن يعترفوا بنا كلاجئين، لكنه يفضل أن يتم ذلك بالطرق الشرعية، نعم يفضل ذلك، سمعته مرة يحدث صديقاً له، قائلاً: “أنا مش حسافر إلا عن طريق المطار”. وحتى يعيد لي والدي جواز السفر، أو أكشف مكانه، أو يستسلم مثلي ويقرر السفر بنا، سأبقي الشنطة والكيس في زاوية الغرفة، جاهزتين للرحيل. سأبقي بجيبي دائماً دفتري المليء بالكلمات الانجليزية والفرنسية لأضيف عليه كل ما سأحتاجه من المعاني، “عشان استخدمهم هناك لما أسافر”. أول المعاني في دفتري كتبتها لكلمة البحر، البحر الذي سأهرب أو سأسافر منه، البحر الذي سأهرب منه!

هذه التدوبنة نشرت في شبكة قدس بتاريخ 19-6-2013

جميع الحقوق محفوظة © 2024